لا شك أن استخدام المواصلات العامة أمرًا لا غنى عنه في حياة كل شخص منّا، إن لم يكن للعمل، فربما عند الحاجة للسفر، وكثيرا ما يصادفنا سلوكيات من الركاب نضطر للإذعان لها على مضد، ومنها تناول الطعام أو الشراب عقب إقلاع الرحلة مباشرة ... فما السبب وراء تلك الظاهرة؟
وحتى لا ينتهي المطاف إلى جدال؛ لا
نقصد بالشراب هنا المياه، فهي لا غنى عنها في كل وقت، ولا ضرر يقع عنها في أي موضع،
ولكن المقصد بالمشروبات الغازية وكل ما ينبعث منه رائحة.
ما السبب الحقيقي وراء رغبة الكثيرين في تناول الطعام أو الشراب أثناء تنقلهم بالمواصلات؟
كثير من أولئك الذين يتناولون وجبة
خفيفة يفعلون ذلك لأنهم جائعون، في حين أن الآخرين قد يفعلون ذلك كمكافأة عن
انتهاء يوم عمل؛ ليشعروا بتحسن في يومهم، أو ربما فقط استجابة لمزاج سلبي، كغضبه
من شخص، أو تعرضه لموقف سيئ، فيخرج طاقته في تناول الطعام (Kitty, 2019; Maragoni, 2019)، ومما
يستدعى القلق حين يقتصر الأمر على مجرد عادة.
وربما يتساءل البعض وأي سبب يزعجك في
تناول الطعام؟! ... وبالفعل ليس هناك ما يثير القلق لكن في حالة لم يطول الآخرين
نتاج سلوكياتك، ناهيك عما تقترفه في حق نفسك. ودعنا نوضح أكثر ماذا نقصد.
أضرار الوجبات الخفيفة:
بداية لا ندّعي التزامنا بالحرص على
تحري الوجبات الصحيّة أثناء التنقل، فلطالما ارتبطت الوجبات السريعة بالسفر، ووفق
نتائج دراسة (Davies, et
al., 2021) فإن
الأكل أثناء المواصلات يسهم بنسبة 21% من استهلاك الوجبات السريعة والوجبات
الجاهزة.
وتشير نتائج دراسة (Barrington & Beresford, 2019) أن تناول الوجبات الخفيفة خصوصًا إذا كانت مرتبطة بالسلوكيات
الغذائية الأخرى المسببة للسمنة كالوجبات السريعة، والمشروبات الغاذية – وما
أكثرها تناولا في المواصلات، وتشتيت وقت تناول الطعام، له تأثير كبير على الوزن
الصحي؛ حيث يقوم بتقليل الشعور بالشبع، وزيادة الاستهلاك في تناول وجبات خفيفة
بشكل أكبر (Hess, 2016).
والجدير بالذكر أنه وعلى النقيض تذهب
نتائج بعض الدراسات إلى أن استهلاك وجبات خفيفة متوازنة من الناحية التغذوية
والسعرات الحرارية بين الوجبات؛ قد يخفف من الحمل الزائد المحتمل على الجهاز
الهضمي والتمثيل الغذائي الناتج عن انخفاض عدد الوجبات ذات المستوى العالي من
الطاقة (Maffeis, 2000; Marangoni,
2019). ولا شك أن الأمر هنا يقتصر على الوجبات الصحية،
ووفق اقتراح وزارة الزراعة الأمريكية فالأفضل إعطاء الأولوية "للوجبات
الخفيفة الذكية" – على حد قولها- والتي تتكون من الفاكهة والخضروات والمياه (Marangoni, 2019).
وعليه أصدرت عدد من وزارات الصحة والرعاية
الاجتماعية في بعض الدول تقارير تحظر الأكل والشرب في وسائل النقل العام –
باستثناء المياه والرضاعة والحالات الطبية – كبادرة للحد من مشكلة السمنة لدى
الأطفال (Davies, et al.,
2021).
ربما تتعجب عزيزي القارئ من عنوان المقالة،
فكل ما ورد حتى الآن – وإن كان نتاج تصرفات غير مسؤولة من فاعليها – فظاهره يضر بصاحبه،
حتى وإن لم يكن ملموسا على المدى القريب، لكن لما لا نبحث في الوجه الآخر لتأثير
هذا التصرف على الآخرين ... عليك عزيزي القارئ أن تجيبني عن التساؤلات التالية:
-
كم مرة رأيت راكبًا لم يحتمل السفر وغلبه القيئ؟
-
ما عدد المرات التي طلب منك أحد الركاب لطفا أن
تنهي جدالا صاخبًا مع شخصا آخر؟
-
أو أن تمنع وصول صوت متداخل صادر عن الجوال الخاص
بك؟
-
كم مرة صادفك راكبا أو أكثر أصابه الغثيان، أو الصداع
بمجرد تحرك وسيلة النقل؟
-
كم مرة طلب راكبا توقف السيارة وخرج ليستنشق
الهواء؟
وكم وكم ... كثيرا ما تصادفنا تلك المواقف، فهل
سألت نفسك ما السبب؟ أعلم أن بعض الأسباب يرجع إلى حالات مرضية؟ لكن ليس جميعها،
فكثيرا منّا أصحاء ويصيبنا ما يسمى بدوار الحركة أو دوار السفر، فما هو؟ وما تأثير
تناول الطعام على من أصيب به؟
كيف يحدث دوار السفر؟
تحدث أعراض دوار السفر نتيجة الصراع
بين الحواس المسؤولة عن التوجه المكاني، ويحدث عادةً عن طريق حركة منخفضة التردد رأسية،
أو جانبية، أو زاوية، أو حركة دورانية، أو حركة
محفزة افتراضية، والتي لم يتكيف معها الفرد، حيث يتلقى الدماغ معلومات متضاربة من
أجهزة استشعار مختلفة حول حركات الجسم الحقيقية أو البيئة الافتراضية (Leung &
Hon, 2019).
ويمكن تحديد عوامل حدوث دوار الحركة
في النقاط الموضحة بالشكل التالي (Iskander, et al., 2019):
من هم الأكثر عرضة للإصابة بدوار السفر؟
تشير التقديرات إلى أن واحدا من كل
ثلاثة أشخاص يصاب بدوار الحركة في مرحلة ما، وأن النساء والأطفال الذين تتراوح
أعمارهم بين سنتين و12 عاما هم الأكثر عرضة للخطر. ومع ذلك، يمكن أن يصاب بالحالة أي
شخص وفي أي مرحلة عمرية (Cleveland clinic, 2021). وغالبا يعاني الركاب الذين يسافرون مع ركاب آخرين في سيارات
مزدحمة من دوار السفر بشكل أكبر، بسبب نقص التهوية، وربما الأصوات العالية (Tadese, et al., 2022).
الأعراض المصاحبة لدوار السفر (دوار الحركة):
تشمل علامات وأعراض دوار السفر: الشحوب، والتعرق البارد، وزيادة حركة الأمعاء، والصداع، والغثيان، والقيئ في بعض الأحيان، وقد يسبب أيضا ضعفا إدراكيا، وتقلبات في المزاج، واضطرابات النوم، والضعف بشكل عام، وعدم وضوح الرؤية، وصعوبة التركيز، والشعور بالضيق، والتثاؤب المتكرر، وفرط التنفس، وزيادة الحساسية للروائح (Samuel, & Tal, 2015; Leung & Hong,2019).
كيف نخفف من حدة تأثير دوار السفر؟
قد تشعر بتحسن بعد القيء، وستنتهي الأعراض بشكل
عام بمجرد الخروج من السيارة. ولكن يمكنك أيضا الشعور بالآثار اللاحقة لبضع ساعات
أو بضعة أيام قبل الشفاء التام، وفيما يلي عرض لبعض النصائح التي تساعدك في تخفيف أثر
دوار السفر: (NHS, 2020; Health
direct, 2021)
افعل:
-
تناول الطعام بخفة قبل الرحلة.
-
اشرب الكثير من الماء.
-
استلق أو اجلس في وضع ثابت باستخدام مسند الرأس.
-
تجنب الروائح التي تعرف أنها تجعلك تشعر
بالغثيان.
-
انظر إلى الأمام مباشرة عند نقطة ثابتة مثل الأفق.
-
تنفس الهواء النقي (افتح النافذة إن أمكن).
-
احصل على فترات راحة وسط الرحلات الطويلة.
لا تفعل:
-
لا تقرأ أو تشاهد الأفلام أو تستخدم الأجهزة
الإلكترونية.
-
لا تنظر إلى الأجسام المتحركة.
-
لا تأكل وجبات ثقيلة أو أطعمة حارة قبيل السفر.
وينصح الكاتب عن تجربة بتطبيق ستة طرق
في بداية رحلتك قد تساهم في التخفيف من دوار السفر:
ويجدر التنويه بالمغالطة المنتشرة
التي يجب تبديدها حول الامتناع عن الطعام نهائيا قبل السفر لأن دوره العلاجي لم
يثبت على الإطلاق، ولكن على العكس من ذلك يبدو أن السفر على معدة فارغة يمكن أن
يزيد من دوار الحركة. من ناحية أخرى، من غير المستحسن أيضا تناول وجبة وفيرة
للغاية لأنها ستجهد الجهاز الهضمي، مما يساعد على إثارة الشعور بالضيق العام، لذلك
فإن الخيار الأفضل هو تناول وجبة خفيفة، ويفضل أن تعتمد على الفواكه والخضروات
الطازجة، وأن تسبق موعد السفر بفترة قصيرة (Spice-electronics, 2020).
يتضح من العرض السابق الحساسية
الشديدة للمصابين بدوار السفر للروائح، فما بالك بمكان مغلق وأطعمة ومقبلات تثير رائحة
نفاذة، فصاحبنا في موقف لا يحسد عليه، بين محاولة في التكيف مع التغيرات الطارئة
للتخفيف من حدة أعراض دوار السفر، وبين مثيرات مشتتة لانتباهه من روائح وغالبا
أصوات متضاربة لا يستطيع التأقلم معها.
وعن الأصوات يفتح لنا بابا أخر من الآثار
المتتالية جرّاء ذلك السلوك – وحان الوقت هنا لكي نطلق عليه عادة أنانية – فقد
نصادف ركابا يعانون من اضطراب الحساسية تجاه الأصوات، فما هم؟
اضطراب الحساسية تجاه الأصوات (الميزوفونيا):
هو شكل من أشكال عدم تحمل الصوت، ويوصف بزيادة
الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية الناتجة عن عدم تحمل بعض المنبهات السمعية (Ferrer-Torres & Giménez-Llort, 2022).
ويعاني مرضى الميزوفونيا من تهيج، أو غضب، أو اشمئزاز،
أو قلق، أو الشعور بالضيق النفسي وأعراض الاكتئاب عندما يواجهون أصواتا معينة (Jager, et al., 2020)، مثل أصوات الأكل (المضغ/
الطحن)، والنقر بالقلم، ودقات الساعة، والتنصت بالأصابع، والصفير، وصفع الشفاه، حتى
الضوضاء التي لا مفر منها الناتجة عن خطوات الأقدام (Cavanna, 2014).
رفض مقبول في زمن موبوء:
لا عجب أن ظاهرة الأكل بالمواصلات
العامة اندثرت لفترة تعدّت الشهور، بل وما يزيد عن السنة في زمن وباء كوفيد-19، وإن
دل ذلك فإنما يشير إلى إمكانية التغيير، فعلى الرغم من تأصّل هذا السلوك لدي
الكثيرين، واستمرار التنقل في زمن كورونا، لكن لم نر شخصا يزيل الكمامة ليأكل
وربما ليشرب المياه، إلاّ إذا وجد طريقة لتناول الطعام وهناك حاجز على فيه! ألا
يثير هذا التناقض تساؤلا... لماذا؟
ليس الاستفهام هنا عن سبب عدم تناول
الطعام في المواصلات العامة زمن الوباء! ... لسنا بتلك السذاجة (تهكم)، فلا شك أن إزالة
الكمامة في مكان عام مغلق يمكن أن يعرض الإنسان للإصابة بالعدوى - وهو سلوك لا
يختلف على رفضه أحد - ولنفرض حسن النية، قد حرصت سابقًا على ألّا تصيب أو تصاب،
فلما لا يظل ذلك الحرص؟ ولماذا لا نمنع أنفسنا بضع سويعات عن تناول الطعام حتى لا
نؤذي الآخرين؟
المراجع:
Barrington,
W., & Beresford, S.
(2019). Eating Occasions, Obesity and Related Behaviors in Working Adults: Does
it Matter When You Snack?. Nutrients, 11(10). https://doi.org/10.3390/nu11102320
Cavanna, A. (2014).
What is misophonia and how can we treat it?, Expert Review of
Neurotherapeutics, 14(4), 357-359. https://doi.org/10.1586/14737175.2014.892418
Cleveland
clinic. (2021, January 18). Motion Sickness. Retrieved May 10,
2023, from https://my.clevelandclinic.org/health/articles/12782-motion-sickness
Davies, A.,
Chan, V., Bauman, A. Signal, L., Hosking, C., Gemming, L., Allman‑Farinelli, M.
(2021). Using wearable cameras to monitor eating and drinking behaviours during
transport journeys. European Journal of Nutrition, (60), 1875–1885. https://doi.org/10.1007/s00394-020-02380-4
Ferrer-Torres,
A., & Giménez-Llort, L. (2022). Misophonia: A Systematic Review of Current
and Future Trends in This Emerging Clinical Field. International Journal of
Environmental Research and Public Health, 19(11), 6790. https://doi.org/10.3390/ijerph19116790
Health
direct. (2021, May). Motion sickness. Retrieved May 10, 2023, from https://www.healthdirect.gov.au/motion-sickness
Hess, J. M.,
Jonnalagadda, S. S., & Slavin, J. L. (2016). What Is a Snack, Why Do We
Snack, and How Can We Choose Better Snacks? A Review of the Definitions of
Snacking, Motivations to Snack, Contributions to Dietary Intake, and
Recommendations for Improvement. Advances in nutrition (Bethesda, Md.), 7(3),
466–475. https://doi.org/10.3945/an.115.009571
Iskander, J.,
Attia, M., Saleh, K., Nahavandi, D., Abobakr, A., Mohamed, S., Asadi, H.,
Khosravi, A., Lim, C., & Hossny, M. (2019). From car sickness to autonomous
car sickness: A review. Transportation Research Part F: Traffic Psychology and
Behaviour, 62, 716–726. https://doi.org/10.1016/j.trf.2019.02.020
Jager, I., Vulink,
N., Bergfeld, I., van Loon, A., & Denys, D. (2020). Cognitive behavioral therapy for misophonia: A
randomized clinical trial. Wiley Periodicals LLC, 38, 708 – 718. https://doi.org/10.1002/da.23127
Kitty. (2019,
October 14). Should Snacking Really Be Banned on Public Transport?. The strawberry
post. Retrieved May 10, 2023, from https://thestrawberrypost.wordpress.com/2019/10/14/should-snacking-really-be-banned-on-public-transport/
Leung, A.,
& Hon, K. (2019). Motion sickness: an overview. Drugs in context, 8,
2019-9-4. https://doi.org/10.7573/dic.2019-9-4
Maffeis, C.,
Provera, S., Filippi, L., Sidoti, G., Schena, S., Pinelli, L., & Tato, L. (2000).
Distribution of food intake as a risk factor for childhood obesity. International
Journal of Obesity, 24(1), 75–80. https://doi.org/10.1038/sj.ijo.0801088
Marangoni,
F., Martini, D., Scaglioni, S., Sculati, M., Donini, L. M., Leonardi, F.,
Agostoni, C., Castelnuovo, G., Ferrara, N., Ghiselli, A., Giampietro, M.,
Maffeis, C., Porrini, M., Barbi, B., & Poli, A. (2019). Snacking in
nutrition and health. International journal of food sciences and nutrition,
70(8), 909–923. https://doi.org/10.1080/09637486.2019.1595543
NHS. (2020,
September 11). Motion Sickness. Retrieved May 10, 2023, from https://www.nhs.uk/conditions/motion-sickness/
Samuel, O., & Tal, D. (2015).
Airsickness: Etiology, Treatment, and Clinical Importance-A Review. Military
medicine, 180(11), 1135–1139. https://doi.org/10.7205/MILMED-D-14-00315
Spice-electronics.
(2020, October 8). Car sickness: like eating when you are forced to drive for
work. Retrieved May 10, 2023, from https://www.spice-electronics.com/en/blog/insights/car-sickness-like-eating-when-you-are-forced-to-drive-for-work
Tadese, Z.,
Teshome, B., & Mengistu, E. (2022). Factors Affecting Car Sickness of
Passengers Traveled by Vehicles in North Shewa Zone, Oromia, Ethiopia. Journal
of Environmental and Public Health, vol 2022.
https://doi.org/10.1155/2022/6642603
للاستشهاد بالمقالة:
إبراهيم سيد إبراهيم عبدالنبي. (2023، مايو 12). الأكل في المواصلات العامة: عادة أنانية أم كارثة صحية؟. بالمعلم نقتدي، مسترجع بتاريخ الشهر اليوم، السنة، من موقع https://www.naqtadi.com/2023/05/eating-on-public-transport-selfish.html
رأيك يهمنا، فضلا شاركنا إياه